فصل: ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الروم بعد الهجرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الروم بعد الهجرة:

فأولهم هرقل، قد ذكر سبب ملكه، وكان مدّة ملكه خمساً وعشرين سنة، وقيل: إحدي وثلاثين سنة؛ وفي أيّامه كان النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ومنه ملك المسلمون الشام.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين، وقيل: هو ابن أخيه قسطنطين، وكان ملكه تسع سنين وستّة أشهر، وسيرد خبره عند ذكر غزاة الصواري، إن شاء الله.
وفي أيّامه كان السنهودس السادس على لعن رجل يقال له قورس الإسكندري خالف الملكية ووافق المارونية.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطا خمس عشرة سنة في خلافة عليّ، عليه السلام، ومعاوية، ثمّ ملك هرقل الأصغر بن قسطنطين أربع سنين وثلاثة أشهر، ثمّ ملك قسطنطين بن قسطا ثلاث عشرة سنة بعض أيّام معاوية وأيّام يزيد وبانه معاوية ومروان بن الحكم وصدراً من أيّام عبد الملك، ثمّ ملك أسطنان، المعروف بالأخرم، تسع سنين أيّام عبد الملك، ثمّ خلعه الروم وخرموا أنفه وحمل إلى بعض الجزائر، فهرب ولحق بملك الخزر واستنجده فلم ينجده، فانتقل إلى ملك برجان؛ ثم ملك بعده لونطش ثلاث سنين أيّام عبد الملك، ثمّ ترك الملك وترّهب؛ ثم ملك ابسمير، المعروف بالطرسوسي، سبع سنين، فقصده أسطينان ومعه برجان وجرى بينهما حروب كثيرة وظفر به أسطنان وخلعه وعاد إلى ملكه، فكان ذلك أيّام الوليد بن عبد الملك، واستقرّ أسطينان، وكان قد شرط لملك برجان أن يحمل إليه خراجاً كل سنة، فعسف الروم وقتل بها خلقاً كثيراً، فاجتمعوا عليه وقتلوه، فكان ملكه الثاني سنتين ونصفاً، وكان قتله أول دولة سليمان بن عبد الملك؛ ثم ملك نسطاس بن فيلفوس، وكان في أيّامه اختلاف بين الروم فخلعوه ونفوه.
ثمّ ملك تيدوس المعروف بالأرمنيّ في أيّام سليمان بن عبد الملك أيضاً، وهو الذي حصره مسلمة بن عبد الملك؛ ثمّ ملك بعده اليون بن قسطنطين لضعفه عن الملك، وضمن أليون للروم ردّ المسلمين عن القسطنطينية، فملّكوه، فكان ملكه ستاً وعشرين سنة، ومات في السنة التي بويع فيها الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين إحدى وعشرين سنة، وفي أيّامه انقرضت الدولة الزموية، وتوفي لعشر سنين مضت من أيام المنصور، ثم ملك بعده ابنه اليون تسع عشرة سنة وأربعة أشهر بقيّة أيّام المنصور، وتوفي في خلافة المهدي، ثمّ ملك بعده ريني امرأة اليون بن قسطنطين، ومعها ابنها قسطنطين بن اليون، وهي تدبّر الزمر بقية أيام المهديّ والهادي وصدراً من خلافة الرشيد، فلما كبر ابنها أفسد ما بينه وبين الرشيد، وكانت أمّه مهادنة له، فقصده الرشيد وجرى له معه وقعة، فانهزم وكاد يؤخذ، فكحلته أمّه وانفردت بالملك بعده خمس سنين وهادنت الرشيد.
ثمّ ملك بعدها نقفور، أخذ الملك منها، وكان ملكه سبع سنين وثلاثة أشهر، وهو نقفور أبو استبراق، وكنت قد رأيته مضبوطاً بكثير من الكتب بسكون القاف، حتى رأيت رجلاً زعم أن اسمه نقفور، بفتح القاف.
وعهد نقفور إلى ابنه استبراق بالملك بعده، وهو أول من فعل ذلك في الروم، ولم يكن يعرف قبله، وكانت ملوك الروم قبل نقفور تحلق لحاها، وكذلك ملوك الفرس، فلم يفعله نقفور، وكانت ملوك الروم قبله تكتب: من فلان ملك النصرانيّة، فكتب نقفور: من فلان ملك الروم، وقال: لست ملك النصرانيّة كلها، وكانت الروم تسمّي العرب سارقيوس، يعني: عبيد سارة، بسبب هاجر أم إسماعيل، فنهاهم عن ذلك وجرى بين نقفور وبين برجان حرب سنة ثالث وتسعين ومائة فقتل فيها.
ثمّ ملك بعده ابنه استبراق بعهد من أبيه إليه، وكان ملكه شهرين، ثمّ ملك بعده ميخائيل بن جرجس، وهو ابن عمّ نقفور، وقيل: ابن استبراق، وكان ملكه سنتين في أيّام الأمين، وقيل أكثر من ذلك، فوثب به اليون المعروف بالبطريق وغلب على الأمر وحبسه، ثم ملك بعده اليون البطريق سبع سنين وثلاثة أشهر، فوثب به أصحابُ ميخائيل في خلاص صاحبهم وقتل اليون ثم فتح لم ذلك وعاد ميخائيل إلى الملك، وقيل: إنه كان قد ترهب أيام اليون، وكان لمكه هذه الدفعة الثانية تسع سنين، وقيل أكثر من ذلك.
ثمّ ملك بعده ابنه توفيل بن ميخائيل أربع عشرة سنة، وهو الذي فتح زبطرة، وسار المعتصم بسبب ذلك وفتح عمّورية، وكان موته أيّام الواثق.
ثمّ ملك بعده ابنه ميخائيل ثمانياً وعشرين سنة، وكانت أمّه تدبر الملك معه، وزراد قتلها فترهبت، وخرج عليه رجل من أهل عمّورية من أبناء الملوك السالفة يعرف بابن بقراط، فلقيه ميخائيل فيمن عنده من أسارى المسلمين، فظفر به ميخائيل فمثل به، ثمّ خرج عليه بسيل الصقلبي فاستولى على الملك وقتل ميخائيل سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
ثمّ ملك بعده بسيل الصقلبيّ عشرين سنة أيّام المعتزّ والمهتدي وصدراً من أيام المعتمد، وكانت أمّه صقلبية فنسب إليها.
وقد غلط حمزة الأصفهاني فيه فقال عند ذكر ميخائيل: ثم انتقل الملك عن الروم وصار في الصقلب فقتله بسيل الصقلبيّ ظناً منه أنّ أباه كان صقلبياً.
ثمّ ملك بعده ابنه اليون بن بسيل ستاً وعشرين سنة أيّام المعتمد والمعتضد والمكتفي وصدراً من أيّام المقتدر، وقيل: إنّ وفاته كانت سنة سبع وتسعين ومائتين.
ثمّ ملك أخوه الأسكندروس سنة وشهرين ومات بالدبيلة، وقيل: إنه اغتيل لسوء سيرته، ثم ملك بعده قسطنطين بن اليون، وهو صبيّ، وتولى الأمر له بطريق البحر، واسمه ارمانوس، وشرط على نفسه شروطاً، منها أنه لا يطلب الملك ولا يلبس التاج لا هو ولا أحد من أولاده، فلم يمض غير سنتين حتى خوطب هو وأولاده بالملوك وجلس مع قسطنطين على السرير، وكان له ثلاثة من الولد، فخصى أحدهم وجعله بطرقاً ليأمن من المنازعة، فإنّ البطرق يحكم على الملك، فبقي على حاله إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، فاتفق ابناه مع قسطنطين الملك على إزالة أبيهما، فدخلا عليه وقبضاه وسيّراه إلى دير له في جزيرة بالقرب من القسطنطينية، وأقام ولداه مع قسطنطين نحو أربعين يوماً وأرادا الفتك به، فسبقهما إلى ذلك وقبض عليهما وسيرهما إلى جزيرتين في البحر، فوثب أحدهما بالموكّل به فقتله، وأخذه أهل تلك الجزيرة فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى قسطنطين الملك، فجزع لقتله.
وأمّا ارمانوس فإنه مات بعد أربع سنين من ترهبّه، ودام ملك قسطنطين بقيّة أيّام المقتدر والقاهر والراضي والمستكفي وبعض أيّام المطيع، ثمّ خرج على قسطنطين هذا قسطنطين بن أندرونقس، وكان أبوه قد توجّه إلى المكتفي سنة أربع وتسعين ومائتين وأسلم على يده وتوفّي، فهرب ابنه هذا علي طريق أرمينية وأذربيجان إلى بلاد الروم، فاجمع عليه خلق كثير وكثر أبتاعه، فسار إلى القسطنطينية ونازع الملك قسطنطين في ملكه، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، فظفر به الملك فقتله.
وخرج عن طاعته أيضاً صاحب رومية، وهي كرسيّ ملك الإفرنج، وتسمى بالملك، ولبس ثياب الملوك، وكانوا قبل ذلك يطيعون ملوك الروم أصحاب القسطنطينية ويصدرون عن أمرهم، فلمّا كان سنة أربعين وثلاثمائة قوي ملك رومية، فخرج عن طاعته، فأرسل إليه قسنطين العساكر يقاتلونه ومن معه من الفرنج، فالتقوا واقتتلوا، فانهزمت الروم وعادت إلى القسطنطينية منكوبة، فكفّ حينئذٍ قسطنطين عن معارضته ورضي بالمسالمة وجرى بينهما مصاهرة، فزوّج قسنطين ابنه أرمانوس بابنة ملك رومية، ولم يزل أمر الإفرنج بعد هذا يقوى ويزداد ويتسع ملكهم كالاستيلاء على بعض بلاد الأندلس، على ما نذكره، وكأخذهم جزيرة صقلية وبلاد ساحل الشام والبيت المقدس، وعلى ما نذكره، وفي آخر الأمر ملكوا القسطنطينيّة سنة إحدي وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله.
ومما ينبغي أن يلحق بهاذ أنّ الطوائف من الترك اجتمعت، منهم: البجناك والبختي وغيرهما، وقصدوا مدينة للروم قديمة تسمى وليدر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وحصروها، فبلغ خبرهم إلى أرمانوس، فسيّر إليهم عسكراً كثيفاً فيهم من المتنصّرة اثنا عشر ألفاً، فاتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الروم، واستولى الترك على المدينة وخرّبوها بعد أن أكثروا القتل فيها والسبي والنهب، ثمّ ساروا إلى القسطنطينية وحصروها أربعين يوماً وأغاروا على بلاد الروم واتّصلت غاراتهم إلى بلاد الإفرنج، ثمّ عادوا راجعين.

.ذكر وصول قبائل العرب إلى العراق ونزولهم الحيرة:

قال ابن الكلبيّ: لما مات بخت نصّر انضمّ الذين أسكنهم الحيرة من العرب إلى أهل الأنبار وبقيت الحيرة خراباً دهراً طويلاً وأهلها بالأنبار لا يطلع عليهم قادم من العرب، فلمّا كثر أولد معدّ بن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب ومزّقتهم الحروب خرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من اليمن ومشارف الشام، وأفلت منهم قبائل حتى نزلوا بالبحرين وبها جماعة من الأزد، وكان الذين أقبلوا من تهامة مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة، ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم، والحيقاد بن الحنق بن عمير بن قبيص بن معدّ بن عدنان في قبيص كلّها، ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى بن دُعمي بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان وغيره من إياد، فاجتمع بالبحرين قبائل من العرب وتحالفوا على التنُّوخ، وهو المقام، وتعاقدوا علي التناصر والتساعد، فصاروا يداً واحدةً وضمّهم اسم تنوخ، وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم، ودعا مالك بن زهير جديمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي إلى التنوخ معه وزوجه أخته لميس، فتنخ جديمة، وكان اجتماعهم أيام ملوك الطوائف، وإنما سمّوا ملوك الطوائف لأن كل ملك منهم كان ملكه على طائفة قليلة من الأرض.
قال: ثم تطلّعت أنفس من كان بالبحرين إلى ريف العراق فطمعوا في أن يغلبوا الأعاجم في ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه لاختلاف بين ملوك الطوائف، فأجمعوا علي المسير إلى العراق، فكان أول من يطلع منهم الحيقاد بن الحنق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين، وهم الذين ملكوا أرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل، يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، وهو ما بين نفر، وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلّة، فدفعوهم عن بلادهم، والأرمانيّون من بقايا إرم فلهذا سمّوا الأرمانيين، وهم نبط السواد.
ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله وغيرهما من تنوخ إلى الأنبار على ملك الأرمانيين، وطلع نمارة ومن معه إلى نفّر على ملك الأردوانيين، وكانوا لاي دينون للأعاجم حتى قدمها تُبّع وهو أسعد أبو كرب بن ملكيكرب في جيوشه، فخلف بها من لم يكن فيه قوّة من عسكره، وسار تُبّع ثم رجع إليهم فأقرّهم على حالهم، ورجع إلى اليمن وفيهم من كلّ القبائل، ونزلت تنوخ من الأنبار إلى الحيرة في الأخبية لا يسكنون بيوت المدر، وكان أول من ملك منهم مالك بن فهم، وكان منزله مما يلي الأنبار، ثم مات مالك فملك بعده أخوه عمرو بن فهم بن غانم بن دوس الأزديّ، ثمّ مات فملك بعده جديمة الأبرش بن مالك بن فهم، وقيل: إنّ جذيمة من العاربة الأولى من بني دمار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح، عليه السلام؛ والله أعلم.

.ذكر جذيمة الأبرش:

قال: وان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغاراً، وأشدّهم نكاية، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به برص فكنت العرب عنه، فقيل: الوضّاح، والأبرش، إعظاماً له، وكانت منازله ما بين الحيرة والأنبار وبقّة وهيت وعين التّمر وأطراف البّر إلى العمير وخفية، تجبى إليه الأموال، وتفد إليه الوفود، وكان غزا طسماً وجديساً في منازلهم من اليمامة، فأصاب حسّان بن تبّع أسعد أبي كرب قد أغار عليهم فعاد بمن معه، وأصاب حسّان سريّة لجذيمة فاجتاحها، وكان له صنمان يقال لهما الضيزنان، وكانت إياد بعين أباغ، فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من إياد يقال له عديّ بن نصر بن ربيعة له جمال وظرف، فغزاهم جذيمة، فبعثت إياد من سرق صنميه وحملها إلى إياد، فأرسلت إليه: إن صنميك أصبحا فينا زهداً فيك ورغبة فينا، فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا دفعناهما إليك، قال: وتدفعون معهما عديّ بن نصر، فأجابوه إلى ذلك وأرسلوه مع الصنمين، فضمه إلى نفسه وولاه شرابه.
فأبصرته رقاض أخت جذيمة فعشقته وراسلته ليخطبها إلى جذيمة، فقال: لا أجترئ على ذلك ولا أطمع فيه، قالت: إذا جلس على شرابه فاسقه صرفاً واسق القوم ممزوجاً، فإذا أخذت الخمر فيه فاخطبني إليه فلن يردّك، فإذا زوّجك فأشهد القوم.
ففعل عديّ ما أمرته، فأجابه جذيمة وأملكه إيّاها، فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح بالخلوق، فقال له جذيمة، وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عديّ؟ قال: أثار العرس، قال: أيّ عسر؟ قال: عرس رقاش، قال: من زوّجكها ويحك قال: الملك، فندم جذيمة وأكبّ على الأرض متفكّراً، وهرب عدّي، فلم ير له أثر ولم يسمع له بذكر، فأرسل إليها جذيمة:
خبّريني وأنت لا تكذبيني ** أبحرّ زنيت أم بهجين

أم بعبد فأنت أهل لعبد ** أم بدون فأنت أهل لدون

فقالت: لا بل أنت زوّجتني امرأً عربياً حسيباً ولم تستأمرني في نفسي، فكفّ عنها وعذرها، ورجع عديّ إلى إياد فكان فيهم، فخرج يوماً مع فتية متصيدين، فرمى به فتى منهم في ما بن جبلين، فتنكس فمات.
فحملت رقاش فولدت غلاماً فسمته عمراً، فلمّا ترعرع وشبّ ألبسته وعطّرته وأزارته خاله، فلمّا رآه أحبّه وجلعه مع ولده، وخرج جذيمة متبديّاً بأهله وولده في سنة خصيبة، فأقام في روضة ذات زهر وغدر، فخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها، فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمرو يقول:
هذا جناي وخياره فيه ** إذ كل جان يده في فيه

فضمّه جذيمة إليه والتزمه وسرّ بقوله وفعله، وأمر فجعل له حلى من فضّة وطوق، فكان أول عربيّ ألبس طوقاً.
فبينا هو على أحسن حالة إذ استطارته الجنّ، فطلبه جذيمة في الآفاق زماناً فلم يقدر عليه، ثمّ أقبل رجلان من بلقين قضاعة يقال لهما مالك وعقيل ابنا فارج بن مالك من الشام يريدان جذيمة، وأهديا له طرفاً، فنزلا منزلاً ومعهما قينة لهما تسمى أم عمرو، فقدّمت طعاماً، فبينما هما يأكلان إذا أقبل فتى عريان قد تلبّد شعره وطالت أظفاره وساءت حاله فجلس ناحيةً عنهما ومدّ يده يطلب الطعام، فناولته القينة كراعاً، فأكلها، ثمّ مدّ يده ثانية، فقالت: لا تعط العبد كراعاً فيطمع في الذراع فذهبت مثلاً، ثمّ سقتهما من شراب معها وأوكت زقّها، فقال عمرو بن عدي:
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ** وكان الكأس مجراها اليمينا

وما شرّ الثلاثة أمَّ عمرو ** بصاحبك الذي لا تصبحينا

فسألاه عن نفسه، قال: إن تنكراني أو تنكرا نسبي، فإنني أنا عمرو بن عدي، بن تنوخيّة، اللخمي، وغداً ما ترياني في نمارة غير معصي.
فنهضا وغسلا رأسه وأصلحا حاله وألبساه ثياباً وقالا: ما كنّا لنهدي لجذيمة أنفس من ابن أخته فخرجا به إلى جذيمة، فسُرّ به سروراً شديداً وقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب من عيني وقلبي إلى الساعة، وأعادوا عليه الطوق، فنظر إليه وقال: شبّ عمرو عن الطوق، وأرسلها مثلاً، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت؛ فهما ندمانا جذيمة اللذان يضربان مثلاً.
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب بن حسّان بن أذينة العمليقيّ من عاملة العمالقة، فتحارب هو وجذيمة، فقتل عمرو وانهزمت عساكره، وعاد جذيمة سالماً، وملكت بعد عمرو ابنته الزّبّاء، واسمها نائلة، وكان جنود الزبّاء بقايا العماليق وغيرهم، وكان لها من الفرات إلى تدمر، فلمّا استجمع لها أمرها واستحكم ملكها اجتمعت لغزو جذيمة تطلب بثأر أبيها، فقالت لها أختها ربيبة، وكانت عاقلة: إن غزوت جذيمة فإنّما هو يوم له ما بعده والحرب سجال، وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة، فأجابتها إلى ذلك وكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وكتبت إليه أنها لم تجد ملك النساء إلاّ قبحاً في السماع وضعفاً في السلطان، وأنها لم تجد لملكها ولا لنفسها كفواً غيره.
فلمّا انتهى كتاب الزبّاء إليه استخفّ ما دعته إليه وجمع إليه ثقاته، وهو ببقّة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم؛ فأجمع رأيهم علي أن يسير إليها ويستولي على ملكها.
وكان فيهم رجلٌ يقال له قصير بن سعد من لخم، وكان سعد تزوّج أمة لجذيمة فولدت له قصيراً، وكان أديباً حازماً ناصحاً لجذيمة قريباً منه، فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال: رأي فاتر، وغدر حاضر؛ فذهبت مثلاً؛ وقال لجذيمة: اكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا لم تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها.
فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير وقال له: لا ولكنّك امرؤ رأيك في الكِنّ لا في الضحّ؛ فذهبت مثلاً.
ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عديّ فاستشاره، فشجعه على المسير وقال: إنّ نمارة قومي مع الزبّاء فلو رأوك صاروا معك، فأطاعه.
فقال قصير: لا يُطاع لقصير أمر، وقالت العرب: ببقّة أُبرم الأمر؛ فذهبتا مثلاً.
واستخلف جذيمة عمرو بن عديّ على ملكه، وعمرو بن عبد الجنّ على خيوله معه، وسار في وجوه أصحابه، فلمّا نزل الفرضة قال لقصير: ما الرأي؟ قال: ببقّة تركت الرأي؛ فذهبت مثلاً.
واستقبله رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال: خطرٌ يسير، وخطب كبير؛ فذهبت مثلاً؛ وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإنهّ المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإنّ القوم غادرون، فاركب العصا، وكانت فرساً لجذيمة لا تُجارى، فإني راكبها ومساريك عليها.
فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر اليه جذيمة مولياً على متنها، فقال: ويل أمّه حزماً على متن العصا فذهبت مثلاً، وقال: ما ضلّ من تجري به العصا؛ فذهبت مثلاً؛ وجرت به إلى غروب الشمس، ثمّ نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا، وقالت العرب: خيرٌ ما جاءت به العصا؛ مثل تضربه.
وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزبّاء، فلمّا رأته تكشّفت، فإذا هي مضفورة الاسب بالباء الموحدة هو شعر الاست، وقالت له: يا جذيمة أدأب عروس ترى؟ فذهبت مثلاً، فقال: بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى؛ فذهبت مثلاً، فقالت له: أما وإلهي ما بنا من عدم مواس، ولا قلّة أواس، ولكنها شيمة من أناس؛ فذهبت مثلاً، وقالت له: أنبئت أنّ دماء الملوك شفاء من الكلب، ثمّ أجلسته على نطع وأمرت بطست من ذهب، فأعدّ له، وسقته الخمر حتى أخذت منه مأخذها ثمّ أمرت براهشيه فقطعا، وقدّمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الرقبة إلاّ في قتال تكرمةً للملك، فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة: دعوا دماً ضيّعه أهله فذهبت مثلاً.
فهلك جذيمة وخرج قصير من الحيّ الذين هلكت العصا بين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عديّ، وهو بالحيرة، فوجده قد اختلف هو وعمرو بن عبد الجنّ فأصلح بينهما، وأطاع الناس عمرو بن عديّ، وقال له قصير: تهيّأ واستعدّ ولا تطلَّ دم خالك، فقال: كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلاً.
وكانت الزبّاء سألت كهنةً عن أمرها وهلاكها، فقالوا لها: نرى هلاكك بسبب عمرو بن عديّ، ولكنّ حتفك بيدك، فحذرت عمراً واتخذت نفقاً من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها، ثمّ قالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني، ودعت رجلاً مصوّراً حاذقاً فأرسلته إلي عمرو بن عديّ متنكرّاً وقالت له: صوّره جالساً وقائماً ومتفضّلاً متنكرّاً ومتسلحاً بهيئته ولبسه ولونه ثم أقبل إليّ، ففعل المصوّر ما أوصته الزباء وعاد إليها، وأرادت أن تعرف عمرو بن عديّ فلا تراه على حال إلاّ عرفته وحذرته.
وقال قصير لعمرو: اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، فقال قصير: خلّ عني إذاً وخلاك ذمّ؛ فذهبت مثلاً، فقال عمرو: فأنت أبصرُ، فجدع قصيرٌ أنفه ودقّ بظهره وخرج كأنه هارب وأظهر أنّ عمراً فعل ذلك به، وسار حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إنّ قصيراً بالباب؛ فأمرت به أفدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب، فقالت: لأمر ما جدع قصير أنفه؛ فذهبت مثلاً، قالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني غدرت خاله وزيّنت له المسير إليك ومالأتكِ عليه ففعل بي ما ترين فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك، فأكرمته، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك.
فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به، قال لها: إنّ لي بالعراق أموالاً كثيرة، ولي بها طرائف وعطر، فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليكِ من طرائفها وصنوف ما يكون بها من التجارات فتصيبين أرباحاً وبعض ما لا غناء للملوك عنه، فسرّحته ودفعت إليه أموالاً وجهّزت معه عيراً، فسار حتى قدم العراق وأتى عمرو بن عديّ متخفياً وأخبره الخبر وقال: جهزني بالبزّ والطّرف وغير ذلك لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك كله إلي الزباء فعرضه عليها، فأعجبها وسرها وازدادات به ثقة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته به في المرة الأولى، فسار حتى قدم العراق وحمل من عند عمرو حاجته ولم يدع طرفةً ولا متاعاً قدر عليه، ثم عاد الثالثة فأخبر عمراً الخبر وقال: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيّأ لهم الغرائز، وهو أوّل من عملها، واحمل كلّ رجلين على بعير في غرارتين واجعل معقد رؤوسهما من باطنهما، وقال له: إذا دخلت مدينة الزبّاء أقمتك على باب نفقها وخرجت الرجال من الغرائز فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قاتلوه، وإن أقبلت الزبّاء تريد نفقها قتلتها.
ففعل عمرو ذلك وساروا، فلمّا كانوا قريباً من الزباء تقدّم قصير إليها فبشّرها وأعلمها كثرة ما حمل من الثياب والطرائف وسألها أن تخرج وتنظر إلى الإبل وما عليها، وكان قصير يكمن النهار ويسري الليل، وهو أول من فعل ذلك، فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض، فقالت: يا قصير.
ما للجمال مشيها وثيدا ** أجندلاً يحملن أم حديدا

أم صرفاناً بارداً شديدا ** أم الرجال جثّماً قعودا

ودخلت الإبلُ المدينة، فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر، ودلّ قصير عمراً على باب النفق وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو علي باب النفق، وأقبلت الزبّاء تريد الخروج من النفق، فلمّا أبصرت عمراً قائماً على باب النفق عرفته بالصورة التي عملها المصور، فمصّت سمّاً كان في خاتمها، فقالت: بيدي لا بيد عمرو فذهبت مثلاً، وتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة ثم عاد إلى العراق.
وصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث ابن سعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلاً من ملوك العرب، فلم يزل ملكاً حتى مات، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وثماني عشرة سنة، منها أيّام ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة، وأيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وأشهر، وأيّام ابنه سابور بن زردشير ثماني سنين وشهران، وكان منفرداً بملكه يغزو المغازي ولا يدين لملوك الطوائف إلى أن ملك أردشير بن بابك أهل فارس، ولم يزل الملك في ولده إلى أن كان آخرهم النعمان بن المنذر، إلى أيام ملوك كندة، على ما نذكره إن شاء الله.
وقيل في سبب مسير ولد نصر بن ربيعة إلى العراق غير ما تقدّم، وهو رؤيا رآها ربيعة، وسيرد ذكرها عند أمر الحبشة، إن شاء الله تعالى.